فصل: تفسير الآية رقم (80):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (80):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} [80].
قوله تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} أي: جادلوه، وأرادوا مغالبته بالحجة، فيما ذهب إليه من توحيد الله، ونفي الشركاء عنه، تارة بأدلة فاسدة واقفة في حضيض التقليد، وأخرى بالتخويف، وقد أشير إلى جواب كل منهما {قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} أي: أتجادلونني في توحيده، وقد هداني لإقامة الحجج، ورفع الشبه على نفي إلهية ما سواه، وقد ثبت أنها ناقصة في ذواتها، فكمالاتها من غيرها، ولا إلهية للناقص بالذات، لأن كماله لا يكون مطلقاً، وتحاجوني بإدغام نون الجمع في نون الوقاية، وقرئ بحذف الأولى.
وقوله تعالى: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} أي: لا أخاف معبوداتكم، لأنها جمادات لا تضر بنفسها ولا تنفع، وهو جواب عما خوفوه عليه الصلاة والسلام في أثناء المحاجة من إصابة مكروه من جهة أصنامهم، كما قال لهود عليه السلام قومه: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54]. وتخويفهم، وإن لم يسبق له ذكر فهم من قوله: {وَلاَ أَخَافُ}.
وقال ابن كثير: أي: ومن الدليل على بطلان قولكم، إن هذه المعبودات لا تؤثر شيئاً، وأنا لا أخافها ولا أباليها، فإن كان لها كيد فكيدوني بها ولا تُنظرون. انتهى.
{إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} أي: من إصابة مكروه بي من جهتها، وذلك إنما هو من جهته تعالى، من غير دخل لمعبوداتكم فيه أصلاً.
وفي الانتصاف: غاية خوف إبراهيم منها. المعلق على مشيئة الله تعالى لذلك، خوف الضرر عندها بقدرة الله تعالى، لا بها، وكأنه في الحقيقة لم يخف إلا من الله، لأن الخوف الذي أثبته منها معلق بمشيئة الله وقدرته، وهو كالخوف منها- والله أعلم-.
وقوله تعالى: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} كأنه علة الاستثناء، أي: أحاط بكل شيء علماً. فلا يبعد أن يكون في علمه إنزال المخوف بي من جهتها، أي: كرجمه بالنجوم لأنه إذا أحيل شيء إلى علم الله، أشعر بجواز وقوعه. وفي الإظهار في موضع الإضمار، مع التعرض لعنوان الربوبية، إظهار منه عليه الصلاة والسلام لانقياده لحكمه سبحانه وتعالى، واستسلام لأمره، واعتراف بكونه تحت ملكوته وربوبيته.
هذا وجعل المهايمي ذلك علة لاستدراك محذوف، لعلمه من المقام، حيث قال في الآية: ولا أخاف الضرر على نفسي من تأثير ما تشركون به، إلا أن يشاء ربي أن يجعل لهم شيئاً من التأثير، لكنه لا يشاء في شأني لأنه: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} فعلم أنه لو أوجد التأثير فيهم بما يضرون به من بعثه لتوحيده، صار محجوباً انتهى- والأول أقرب-.
{أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} أي: تعتبرون بأن هذه المعبودات جمادات، لا تضر ولا تنفع، وأن النافع الضار هو الذي خلق السماوات والأرض.

.تفسير الآية رقم (81):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [81].
{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} أي: معبوداتكم، وهي مأمونة الخوف {وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ}، أي: بإشراكه: {عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً} أي: حجة. إذ الإشراك لا يصح أن يكون عليه حجة. والمعنى: وما لكم تنكرون علي الأمن في موضع الأمن، ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع أعظم المخوفات وأهولها: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ} أي: فريقي الموحدين والمشركين {أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} أي: من لحوق الضرر {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: ما يحق أن يخاف منه. أو من أحق بالأمن أو مِنَْ أولي العلم؟ وجواب الشرط محذوف. أي: فأخبروني.
ثم بيّن تعالى من له الأمن، جواباً عما استفهم عنه الخليل عليه السلام بقوله:

.تفسير الآية رقم (82):

القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [82].
{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} أي: بشرك، كما يفعله الفريق المشركون حيث يزعمون أنهم يؤمنون بالله عز وجل، وأن عبادتهم للأصنام من تتمات إيمانكم وأحكامه، لكونها لأجل التقريب والشفاعة، كما قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. وهذا معنى اللبس- أفاده أبو السعود- وسيأتي زيادة لذلك.
{أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} يوم القيامة: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} أي: إلى الحق، ومن عداهم في ضلال.
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله قال: لما نزلت: {وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} قال أصحابه: وأينا لم يظلم نفسه؟ فنزلت: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].- هذا لفظ رواية البخاري-.
ولفظ رواية الإمام أحمد عن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} شقّ ذلك على الناس، فقالوا: يا رسول الله! فإينا لا يظلم نفسه؟ قال: «إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}؟ إنما هو الشرك».
أقول: هذه الرواية توضح رواية البخاري السابقة- أعني: قول ابن مسعود: فنزلت: {إِنَّ الشِّرْكَ}.. الخ- من جهة أن النزول أريد به تفسير الآية، لا سبب نزولها، وهو اصطلاح الصحابة والتابعين دقيق، ينبغي التنبه له. وقد أشرنا له في المقدمة. فجدد به عهداً.
ولابن أبي حاتم عن عبد الله مرفوعاً: {وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} قال: «بشرك».
قال: روي عن أبي بكر وعمر وأُبي بن كعب وحذيفة وابن عباس وابن عمر وعمرو بن شرحبيل وأبي عبد الرحمن السلمي ومجاهد وعكرمة والنخعي والضحاك وقتادة والسدّيّ، وغير واحد نحو ذلك. نقله ابن كثير. وبالجملة، فلا يعلم مخالف من الصحابة والتابعين في تفسير الظلم هنا بالشرك، وقوفاً مع الحديث الصحيح في ذلك، المبين للنظائر القرآنية الموضِّح بعضها لما أبهم في بعض. وتعرف تلك القاعدة من مثل هذا الحديث يكشف غمة أوهام كثيرة. ولو قيل: لا يلزم من قوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} أن غير الشرك لا يكون ظلماً، يجاب: بأن التنوين في {بظلم} للتعظيم، فكأنه قيل: لم يلبسوا إيمانهم بظلم عظيم. ولما تبين أن الشرك ظلم عظيم علم أن المراد: لم يلبسوا إيمانهم بشرك، أو أن المتبادر من المطلق أكمل أفراده- كذا في العناية-.
قال الرازي: والدليل على أن هذا هو المراد، أن هذه القصة من أولها إلى آخرها إنما وردت في نفي الشركاء والأضداد والأنداد، وليس فيها ذكر الطاعات والعبادات، فوجب حمل الظلم هاهنا على ذلك.
تنبيه:
حيث علم أن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فسر الآية بما تقدم فليُعَضَّ عليه بالنواجذ وأما ما هذى به الزمخشري من قوله في تفسير الآية: أي: لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم، وأبى تفسير الظلم بالكفر، لفظُ اللبس أي: لأن لبس الإيمان بالشرك أي: خلطه به، مما لا يتصور، لأنهما ضدان لا يجتمعان- على زعمه- فمدفوع بأنه يلابسه. لأنه إن أريد بالإيمان مطلق التصديق، سواء كان اللسان أو غيره، فظاهر أنه يجامع الشرك كالمنافق. وكذا إن أريد تصديق القلب، لجواز أن يصدّق بوجود الصانع، دون وحدانيته، لما في قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]. وهو ما أشير إليه قبل. ولو أريد التصديق بجميع ما يجب التصديق به بحيث يخرج عن الكفر، فلا يلزم من لبس الإيمان بالشرك الجمع بينهما، بحيث يصدق عليه أنه مؤمن ومشرك، بل تغطيته بالكفر، وجعله مغلوباً مضمحلاً، أو اتصافه بالإيمان، ثم الكفر، ثم الإيمان ثم الكفر مراراً، وبعد تسليم ما ذكر، فاختصاص الأمن بغير العصاة لا يوجب كون العصاة معذبين البتة، بل خائفين ذلك، متوقعين للاحتمال، ورجحان جانب الوقوع- كذا في شرح الكشاف.
وفي الانتصاف: إنما يروم الزمخشري بذلك تنزيله على معتقده، في وجوب وعيد العصاة، وأنهم لا حظ لهم في الأمن كالكفار. ويجعل هذه الآية تقتضي تخصيص الأمن بالجامعين بين الأمرين: الإيمان والبراءة من المعاصي. ونحن نسلم ذلك، ولا يلزم أن يكون الخوف اللاحق للعصاة، هو الخوف اللاحق للكفار، لأن العصاة من المؤمنين إنما يخافون العذاب المؤقت، وهم آمنون من الخلود. وأما الكفار فغير آمنين بوجهٍ ما. انتهى. وأما قوله المعتزلة: حديث عبد الله المتقدم- إن صح- يكون خبر واحدٍ، في مقابلة الدليل القطعي، ومثله لا يعمل به- فالجواب: بأنه صح بلا ريب، لتخريج الشيخين له.
وإذا جاء نهر الله، بطل نهر معقل

وقولهم: في مقابلة الدليل القطعي، بهتان عظيم. ويا لله العجب من هؤلاء، قابلوا السنة الصحيحة بكناسة الرأي، ولم يستحيوا من الله تعالى ورسوله في هذه المخالفة، فأين تذهب به عقولهم؟ إلى الحق أم إلى الباطل؟ ولكن كما قال ابن سهل:
فما أضيعَ البرهانَ عند المقلِّدِ

هذا، وقد روى ابن مردويه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير ساره، إذ عرض له أعرابي فقال: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق! لقد خرجت من بلادي وتلادي ومالي، لأهتدي بهداك، وآخذ من قولك، وما بلغتك حتى ما لي طعام إلا من خضر الأرض، فاعرض عليّ. فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل. فازدحمنا حوله، فدخل خفّ بَكْرِه في بيت جرذان، فتردّى الأعرابيّ، فانكسرت عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدق! والذي بعثني بالحق! لقد خرج من بلاده وتلاده وماله ليهتدي بهداي، ويأخذ من قولي، وما بلغني حتى ما لهُ من طعام إلا من خضر الأرض. أسمعتم بالذي علم قليلاً وأُجر كثيراً؟ هذا منهم! أسمعتم بـ: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}؟ فإن هذا منهم. وفي لفظ قال: هذا عمل قليلاً وأُجر كثيراً».
وروى نحو الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله مطولاً، وفيه بيان قوله: فاعرض عليّ، ولفظه: ما الإيمان؟ قال: «تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت» قال: قد أقررت.

.تفسير الآية رقم (83):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [83].
قوله تعالى: {وَتِلْكَ} أي: الدلائل المشار إليها في قوله: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} إلى هاهنا: {حُجَّتُنَا} أي: لا يمكن نقضها: {آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ} أي: أرشدناه إليها، وعلمناه إياها، بلا واسطة معلّم: {عَلَى قَوْمِهِ} متعلق بـ: {حُجَّتُنَا} إن جعل خبر: {تِلْكَ}، وبمحذوف إن جعل بدله، أي: آتيناها حجة ودليلاً على قومه الكثيرين، ليغلب وحده.
{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} يعني: في العلم والحكمة، وقُرئ بالتنوين {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ} في رفعه وخفضه {عَلِيمٌ} بحال من يرفعه واستعداده له.

.تفسير الآيات (84- 86):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [84- 86].
{وَوَهَبْنَا لَهُ} أي: لإبراهيم عوضاً عن قومه، لما اعتزلهم وما يعبدون {إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} أي: ولداً، وولد ولد، لتقر عينه ببقاء العقب: {كُلّاً هَدَيْنَا} أي: كلاًّ منهما هديناه الهداية الكبرى، بلحوقهما بدرجة أبيهما في النبوة، كما قال تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً} [مريم: 49].
قال ابن كثير: يذكر تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحاق، وذلك بعد أن طعن في السن، وأيس وامرأته سارة، من الولد، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط، فبشروهما بإسحاق، فتعجبت المرأة من ذلك: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [هود: 72] {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 73]. فبشروهما فتعجبت، وبشروهما مع وجوده بنبوته، وبأن له نسلاً وعقباً، كما قال تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112]. وهذا أكمل في البشارة، وأعظم في النعمة. وقال: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71]. أي: ويولد لهذا المولود ولدٌ في حياتكما، فتقرَّ أعينكما به، كما قرت بوالده، وإن الفرح بولد الولد شديد، لبقاء النسل والعقب. ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يتوهم أنه لا يعقب لضعفه، وقعت البشارة به، وبولد اسمه يعقوب، الذي فيه اشتقاق العقب والذرية، وكانت هذه المجازاة لإبراهيم عليه السلام حين اعتزل قومه وتركهم، ونزح عنهم، وهاجر من بلادهم، ذاهباً إلى عبادة الله في الأرض، فعوضه الله عز وجل عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين، من صلبه، على دينه، لتقر بهم عينه، كما قال تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ} [مريم 49] الآية.
{وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} أي: من قبله، هديناه كما هديناه. وعدّ هداه نعمة على إبراهيم، من حيث إنه أبوه، وشرف الوالد يتعدى إلى الولد.
قال ابن كثير: كل منهما له خصوصية عظيمة، أما نوح عليه السلام فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض، إلا منن آمن به، وهم الذين صحبوه في السفينة، جعل الله ذريته هم الباقين، فالناس كلهم من ذريته، وأما الخليل إبراهيم عليه السلام، فلم يبعث الله عزّ وجل بعده نبياً إلا من ذريته، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَاب} [العنكبوت: 27] الآية. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد: 26]. وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم: 58].
وقوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} الضمير لإبراهيم أو لنوح، على ما يأتي {دَاوُدَ} عطف على: {نُوحاً} أي: وهدينا داود {وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.
{وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ}.
{وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ}.
اعلم أن المقصود من هذه الآيات، وما قبلها، وما يلحقها، تعديد أنواع نعم الله تعالى على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، جزاء اعتزاله قومه وما يعبدون، وقيامه بنصرة التوحيد، ودحض الشرك. فذكر تعالى أولاً رفع درجته، بإيتائه الحجة على قومه، وتخصيصه بها، ثم جعله عزيزاً في الدنيا، حسباً ونسباً، أصلاً وفرعاً، لأنه تولد من نوح أول المرسلين رسالة عامة، ووهبت له الذرية الطاهرة، أنبياء البشر. ولذا ذهب الأكثرون إلى أن الضمير في: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ} لإبراهيم، لأن مساق النظم لبيان شؤونه العظيمة، كأنه قيل: ولم نزل نرفع درجاته بعد ذلك إذ هدينا من ذريته داود.. الخ، فهو المقصود بالذكر في هذه الآيات. وذكر نوح عليه السلام، لأن كون إبراهيم من أولاده أحد موجبات رفعته كما تقدم. والغاية هي إلزام من ينتمي إليه من المشركين.
ولا يقال: إن لوطاً ليس من ذرية إبراهيم لأنه ابن أخيه، لأنه يقال: إن العرب تجعل العمّ أباً، كما أخبر تعالى عن أبناء يعقوب أنهم قالوا: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133] مع أن إسماعيل عم يعقوب، ودخل في آبائه تغليباً.
وقال محي السنة رحمه الله تعالى: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ} أي: ذرية نوح صلى الله عليه وسلم، ولم يرد من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام، لأنه ذكر في جملتهم يونس صلى الله عليه وسلم، وكان من الأسباط، في زمن شعياء، أرسله الله تعالى إلى أهل نينوى من الموصل.
وقال: إن لوطاً عليه السلام كان ابن أخي إبراهيم عليه السلام، آمن بإبراهيم، وشخص معه مهاجراً إلى الشام، فأرسله الله إلى أهل سدوم.
ومن قال: الضمير لإبراهيم صلى الله عليه وسلم، يقدّر: ومن ذرية إبراهيم وداود وسليمان هدينا. لأن إبراهيم هو المقصود بالذكر. وذكر نوح لتعظيم إبراهيم. ولذلك ختم بيونس ولوط، وجعلهما معطوفين على: {نُوحاً هَدَيْنَا} من تعطف الجملة على الجملة. وصاحب الكشف أخرج إلياس صلى الله عليه وسلم. وليس كذلك. لما في جامع الأصول عن الكسائي، أنهما من ذريته. فبقي لوط خارجاً، لما كان ابن أخيه آمن به، وهاجر معه، أمكن أن يجعل من ذريته على سبيل التغليب- كما ذكره الطيبي-. وبالجملة، فالآية المذكورة من المنن على إبراهيم على كلا الوجهين، لأن شرف الذرية، وشرف الأقارب شرف، لكنه على الأول أظهر، ويكون تطرية في مدح إبراهيم صلى الله عليه وسلم بالعود إليه مرة بعد أخرى.
تنبيهات:
الأول- قال الحافظ ابن كثير: في ذكر عيسى عليه السلام، في ذرية إبراهيم أو نوح على القول الآخر دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل، لأن انتساب عيسى ليس إلا من جهة أمه مريم عليهما السلام، وقد روى ابن أبي حاتم أن الحجاج أرسل إلى يحيى بن يعمر فقال: بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبيّ صلى الله عليه وسلم، تجده في كتاب الله وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده؟! قال: أليس تقرأ سورة الأنعام: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ}... حتى بلغ: {وَيَحْيَى وَعِيسَى} قال: بلى! قال: أليس من ذرية إبراهيم، وليس له أب؟ قال صدقت! فلهذا إذا أوصى الرجل لذريته أو وقف على ذريته، أو وهبهم دخل أولاد البنات فيهم. فأما إذا أعطى الرجل بنيه، أو وقف عليهم، فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه، وبنو بنيه، واحتجوا بقول الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ** بنوهنّ أبناء الرجال الأباعدِ

وقال آخرون: ويدخل بنو البنات فيهم، لما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للحسن بن عليّ: إن ابني هذا سيّد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين. فسماه ابناً فدل على دخوله في الأبناء. وقال آخرون: هذا تجوّزٌ: انتهى.
وفي العناية: أورد على الاستدلال بتناول الذرية أولاد البنت من هذه الآية، بأن عيسى عليه السلام ليس له أب يصرف إضافته إلى الأم إلى نفسه، فلا يظهر قياس غيره عليه. والمسألة مختلف فيها، والقائل بها استدل بهذه الآية، وآية المباهلة، حيث دعا النبي صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين رضي الله عنهما بعدما نزل: {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} [آل عِمْرَان: 61]. أن لم نقل إنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم. انتهى.
الثاني- إنما لم يذكر إسماعيل عليه السلام مع إسحاق، بل أخرّ ذكره عنه، لأن المقصود بالذكر هاهنا أنبياء بني إسرائيل، وهم بأسرهم أولاد إسحاق ويعقوب، وأما إسماعيل فلم يخرج من صلبه من الأنبياء إلا خاتمهم وأفضلهم صلى الله عليه وسلم. ولا يقتضي المقام ذكره صلى الله عليه وسلم لأنه أمر أن يحتج على العرب في نفي الشرك بأن إبراهيم لما ترك قومه وما يعبدون إلى عبادة الله وحده، رزقه الله النعم العظيمة في الدين والدنيا، ومنها إيتاؤه أولاداً أنبياء. فإذا كان المحتج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يُذكر في هذا المعرض. ولهذا السبب لم يذكر إسماعيل مع إسحاق- أفاده الرازي-.
الثالث- اعلم أنه تعالى ذكر هنا ثمانية عشر نبيّاً من الأنبياء عليهم السلام من غير ترتيب، لا بحسب الزمان، ولا بحسب الفضل، لأن الواو لا تقتضي الترتيب. ولكن هنا لطيفة في هذا الترتيب، وهي أن الله تعالى خص كل طائفة من طوائف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بنوع من الكرامة والفضل، فذكر أولاً نوحاً وإبراهيم وإسحاق ويعقوب لأنهم أصول الأنبياء، وإليهم ترجع أنسابهم جميعاً. ثم من المراتب المعتبرة، بعد النبوة، الملك والقدرة والسلطان. وقد أعطى الله داود وسليمان من ذلك حظّاً وافراً. ومن المراتب الصبر عند نزول البلاء والمحن والشدائد، وقد خص الله بهذه أيوب عليه السلام. ثم عطف على هاتين المرتبتين من جمع ببينهما، وهو يوسف عليه السلام، فإنه صبر على البلاء والشدة إلى أن آتاه الله ملك مصر مع النبوة، ثم من المراتب المعتبرة في تفضيل الأنبياء عليهم السلام كثرة المعجزات، وقوة البراهين، وقد خص الله موسى وهارون من ذلك بالحظ الوافر. ثم من المراتب المعتبرة الزهد في الدنيا، والإعراض عنها، وقد خص الله بذلك زكريا ويحيى وعيسى وإلياس عليهم السلام، ولهذا السبب وصفهم بأنهم من الصالحين، ثم ذكر الله من بعد هؤلاء الأنبياء، من لم يبق له أتباع ولا شريعة، وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط. فإذا اعتبرنا هذه اللطيفة على هذا الوجه، كان هذا الترتيب من أحسن شيء يذكر، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه- أفاده الخازن وأصله للرازيّ-.
الرابع- استدل بقوله تعالى: {وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} من يرى أن الأنبياء أفضل من الملائكة. لأن العالم اسم لكل موجود سوى الله تعالى، فيدخل فيه الملك.
الخامس- نكتة ذكر الهداية في قوله تعالى: {كُلاًّ هَدَيْنَا} هو تعديد النعم على إبراهيم صلى الله عليه وسلم بشرف الأصول والفروع- كما أسلفنا- والولد لا يُعدّ نعمة ما لم يكن مهديّاً.
السادس- قال السيوطي في الإكليل: استدل بقوله تعالى: {كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا} من أنكر إفادة التقديم الحصرَ.